البعض يعتقد أن النكسة كانت في الخامس من شهر يونيو عام 67، وأنها أصبحت صفحة في كتاب التاريخ طويت وتم تجاوزها، وذلك مفهوم مغلوط حتي علي المستوي اللغوي، ذلك أن النكسة في المعاجم اللغوية تنصرف إما إلي انقلاب الشيء رأساً علي عقب، أو إلي انكساره أو إلي ضعفه وعجزه، وما حدث في ذلك اليوم المشئوم لم يكن شيئاً من ذلك كله
حتي الضعف والعجز الذي تبدي يومذاك كان في الأداء العسكري وليس في الإرادة السياسية، لذلك فإن الوصف الدقيق لذلك المشهد هو أنه كان هزيمة عسكرية فادحة، وأغلب الظن أن خطاب تلك المرحلة آثر أن يستر الهزيمة ويخفف من وقعها بوصف ما جري بأنه نكسة، حتي لا يصدم الرأي العام المحلي والعربي بأكثر مما هو مصدوم فعلاً.
وإذا جاز لنا أن نستعيد أجواء تلك المرحلة فسنجد أنه رغم الفجيعة التي ألمت بالعالم العربي من أقصاه إلي أقصاه، ورغم خيبة الأمل التي مني بها الجميع، إلا أن هناك بعض القسمات التي ظلت واضحة ولم تلتبس علي أحد، فقد كانت هناك قيادة ظلت رغم ما جري محل ثقة الأمة، وكانت هناك إرادة ظلت متماسكة ولم تنكسر، وكانت هناك أمة موحدة الشمل، وفي الوقت ذاته فإن الرؤية الاستراتيجية كانت واضحة، وبمقتضاها كان معلوماً للجميع، مَنْ هو العدو ومَنْ هو الحليف والصديق!، ولم يكن هناك خلاف علي أن المقاومة هي الطريق الوحيد لاستعادة ما سلب من الأرض سواء في فلسطين أو في غيرها من الدول العربية التي تعرضت للاحتلال جراء الهزيمة.
ما الذي حدث بعد ذلك؟ حاولت مصر أن تلملم جراحها وخاضت حرب الاستنزاف، وأشهرت القمة العربية التي عقدت في الخرطوم، اللاءات الثلاث الشهيرة «لا للتفاوض لا للصلح للا للاعتراف»، ثم مات الرئيس عبدالناصر، وجاء بعده الرئيس السادات الذي حقق إنجازه الكبير في حرب أكتوبر عام 73، لكنه في الوقت ذاته فك تحالف مصر مع الاتحاد السوفيتي، وراهن علي الولايات المتحدة الأمريكية وعلي الانفتاح السياسي والاقتصادي علي الغرب، وتورط في اتفاقية كامب ديفيد التي استعادت مصر بمقتضاها شبه جزيرة سيناء، رغم أن تواجدها العسكري فيها تم تكبيله بعدة قيود، وكان ذلك ثمناً لخروج مصر من الصف العربي واستفراد إسرائيل بالفلسطينيين وبقية الدول العربية، وتلك كانت بداية انفراط عقد الأمة، الذي استصحب توسعاً في النفوذ الأمريكي واختراقاً تدريجياً من جانب إسرائيل للصف العربي، تمثل في عقد اتفاقية الصلح مع الأردن الذي فتح الباب لاحقاً لاعتراف موريتانيا ولإقامة علاقات حذرة مع تونس والمغرب وقطر وسلطنة عمان.
كانت تلك بدايات الانكسار الذي تحولت مصر بمقتضاه من قائد للفريق العربي إلي مجرد لاعب في الفريق، ولاحقاً أصبحت في بعض المواقف عضواً احتياطياً جالساً خارج الملعب.
ذلك أن مؤشر الانكسار ازداد حدة في عهد الرئيس المبارك، حين سار علي درب سلفه الذي رفع الشعار القائل بإن 99% من أوراق اللعبة في يد واشنطن، وكان انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات عنصراً مساعداً علي تعزيز الموقف الأمريكي وترجيح كفته، وأخطر ما حدث في هذه المرحلة امران أن الرؤية الاستراتيجية المصرية تراجعت كثيراً إلي الوراء، ولم تثبت الإرادة المصرية حضوراً يؤكد وجودها، الأمر الذي أدي إلي افتقادها وتحولها في كثير من الأحيان إلي صدي للسياسة الأمريكية، وهو ما بدا واضحاً في الموقف المصري إزاء المقاومة الفلسطينية وإزاء لبنان والعراق وإيران، وفي ظل تراجع الموقف المصري وانفراط عقد الأمة نتيجة لذلك حدث احتلال العراق للكويت وتم الغزو الأمريكي للعراق وخضع العالم العربي للتقسيم الأمريكي الذي وصف الدول الموالية بالاعتدال، في مقدمتها مصر والسعودية ومعهما إسرائيل بطبيعة الحال، في حين وصم الدول الرافضة للهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي بالتطرف، وكان ذلك تعبيراً عن الانقلاب الجاهل في الرؤية الاستراتيجية الذي أدي إلي خلط الأوراق، وفقدان القدرة علي التمييز بين العدو والصديق، وبلغ الخلل ذروته حين انقلبت الآية واعتبر بعض السياسيين والمثقفين في مصر والعالم العربي، أن العدو هو إيران وليس إسرائيل.
هذه الخلفية تسوغ إليّ أن أقول: إن النكسة الحقيقية لم تكن في 5 يونيو، ولكنها حلت بعد ذلك بعدة سنوات، ومازلنا نعيش تجلياتها إلي الآن.